انها الرأسمالية يا فوكوياما

نسخة للطباعة2024.04.16
عبد الرحمن الشامي

يستضيف الكوميدي السياسي الامريكي المعروف جون ستيوارت الصحفي المختص بشؤون البيت الأبيض ديفيد سانغر, ليسأله سؤال مهم: كان فوكوياما يعتقد ان التاريخ سينتهي وانه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الجميع سوف يقبل بالحقبة الديمقراطية, ما هو الخطأ الذي حصل؟ هل افتراضنا كان خاطئ؟ هل كنا نظن ان هؤلاء سيقبلون قيمنا بينما في الواقع هم يهتمون بقيمهم الخاصة بهم؟
سؤال ستيوارت الليبرالي كان محاولة جادة لمحاولة فهم الاخر, ما كان يحاول ستيوارت ايصاله من خلال هذه المقابلة المهمة ان على الامريكين والغرب فهم العالم الاخر وهو امر مهم بالفعل لكن ستيوارت اخطأ أيضا تماما كما ان فوكوياما اخطأ.
ليست المشكلة في ان شي جين بينغ او بوتن يهتمون ب "حضارتهم الشرقية" اكثر من الديمقراطية! الحقيقة هي ان المشكلة تكمن في النموذج الغربي نفسه! يقدم النموذج الغربي في عالم ما بعد الحرب الباردة على انه نموذج ديمقراطي ليبرالي يحترم الملكية الخاصة ويعمل بناء على الرأسمالية, بالتالي الديمقراطية هي القيمة الأهم التي يقدمها الغرب ويحميها الغرب او هكذا على الأقل كان الافتراض وبناء عليه ظن الكثيرون ان انتصار الغرب هو انتصار للديمقراطية والتي هي برأيهم اهم منتجات الإنسانية بالتالي هذا يعني نهاية التاريخ وان الجميع يريد قطعة من كعكة الديمقراطية, لكن في الحقيقة القيمة الأساسية التي حملتها الحضارة الغربية المنتصرة في الحرب الباردة هي الرأسمالية, اما الديمقراطية التي رافقتها فهي ديمقراطية شرطية مرتبطة بالزمان والمكان, بل الهدف من الديمقراطية هو فقط تامين المنافسة حتى ينتعش الاقتصاد الرأسمالي على اعتبار ان رأس المال جبان وان الديمقراطية أحيانا تقدم ضمانات للمستثمرين يمكن الاستعاضة عنها في حال كان الحاكم دكتاتور لكن المستثمرين يثقون بتعهداته! اذا الديمقراطية هي وسيلة وليست غاية ضمن المنظومة الغربية, لذلك تجد وباستمرار عندما تتعارض الرأسمالية مع الديمقراطية فأن كثير من الأنظمة الغربية وعلى رأسهم أمريكا تختار الرأسمالية, هذا يبرر ان عالم ما بعد الحرب الباردة, العالم "الديمقراطي" كان يفتح بوابته بشكل واسع لكثير من الأنظمة الدكتاتورية بدون أي مشكلة طالما انها تحترم قوانين السوق وتضمن للمستثمرين قيمة استثمارهم.
مما سبق وعلى عكس ما يحاول ستيوارت ان يستنتج فأنه وان كان في العالم بكل تأكيد شعوب لا تزال تحمل قيمها الخاصة وليست بالضرورة سعيدة جدا بالمنظومة الغربية الأخلاقية لكن الحكومات على الجانب الاخر في عالم ما بعد الحرب الباردة فعلياً هي حكومات اغلبها تشبع بالفعل أفكار الغرب وهي رأسمالية بامتياز! على الرغم من ان بوتن الان يحاول اظهار نفسه على انه حام للاسرة الروسية من التأثير الغربي فأن بوتن الذي وصل لرأس السلطة في نهاية التسعينيات كان شخصاً اخر! كان معروف عنه التقارب مع الغرب والانفتاح الثقافي, كان حفلات المغنيين الغربيين من اهم الاحداث في ساحات موسكو, بوتن نفسه كان يرعى مثل هذه الحفلات, ان كانت روسيا الان تدعي الحرب على المثلية فأن اشهر فرق البوب الروسية واشهر المغنيين والمغنيات حتى في الحفلات الرسمية كانوا مثليين بل ان احد اهم الابواق الروسية في الحرب على أوكرانيا الان هو مثلي مع ذلك فانه يعمل مع الاعلام الروسي الرسمي ضمن مؤسسة "روسيا اليوم"
بوتن نفسه كان صديق مقرب من توني بلير وعلى علاقة جيدة بجورج بوش الابن وكانا في يوم من الأيام متفقين على "محاربة الإرهاب" سوياً, بوتن دعم أمريكا في حربها في أفغانستان, اما من حيث النظام الاقتصادي لم يعد بوتن أي من أوجه الاشتراكية منذ بدأ حكمه ففترة حكمه اوليغارخية بامتياز, هو محاط بمجموعة من الأصدقاء والمقربين الذين يتحكمون حرفيا في اغلب أوجه الاقتصاد الروسي, بل ان شوارع روسيا ومدنها والفرق الهائل بين شوارع موسكو وشوارع حتى المدن الوسطى والهوة الرهيبة الاقتصادية التي جعلت الحد الأدنى للأجور في روسيا اقل من نظيرته في أوكرانيا حتى عندما كانت أوكرانيا في حالة حرب! نعم يا سادة الاقتصاد الروسي رأسمالي اكثر من نظيره الاوكراني بالمقارنة!
بوتن نفسه قي مقابلته ما كارلسون كرر مرات ومرات انه كان يريد ان يكون جزء من النادي الغربي! هذه كانت أولوياته! مدفيدف الرئيس السابق ورئيس الوزراء السايق الذي اصبح اليوم يهدد الغرب كل يوم, كان مشهور جدا بزيارته للولايات المتحدة واحاديثه المطولة مع أصحاب رؤوس الأموال فيها ودعوتهم بقوة للاستثمار في روسيا بل ان الجمهور الروسي لا يزال يتناقل فيديو مدفيدف الشهير وهو يرقص على انغام اغنية "أميريكان بوي" الروسية
حتى المقربين من بوتن وأصحاب المراكز في سلطته اغلبيتهم بشكل ساحق كانوا وربما لا يزالون يستثمرون اغلب أموالهم في الدول الغربية, اغلب أولادهم, زوجاتهم, عشيقاتهم يعيشون في الغرب.
ان كانت الصين تختلف كثيرا عن روسيا في كثير من النواحي لكن لا اعتقد ان احد يشك بان الصين من اكبر الدول الرأسمالية في العالم, حتى عندما تحدث ترامب رئيس أمريكا نفسها ضد العولمة كان شي جي بينغ يصرح بان الصين استفادت من العولمة وانها ستستمر في نفس النهج!
اذا الحقيقة ان قادة المعسكر الاخر هم ليسوا من نمط تشي غيفارا او ستالين, او تروتسكي, هم ربما رأسماليون اكثر من الغرب نفسه! الصعود الصيني لم يكن ليحصل لولا الدفعة الغربية نفسها! اذا الظن بانهم يملكون مشكلة ايدلوجية مع الغرب امر سطحي! المشكلة ليست بالتناقض بينهم وبين الغرب! على العكس هم الوجه الاخر للرأسمالية! الرأسمالية التي كانت تتقنع بالديمقراطية لكنها مراراً وتكراراً تتامر عليها لان الرأسمالية قائمة على فكرة المنافسة "ليست بالضرورة المنافسة الشريفة" مما يعني ان أي مستثمر سيستفيد من عرض ارخص للموارد, هذه الموارد التي تأتي من دول في حال تحولت لنظام ديمقراطي سترتفع قيمة هذه الموارد, بما فيها الموارد البشرية والعمالة الرخيصة في بقاع عديدة من العالم, مما يعني ان الرأسمالية العالمية سترسخ الدكتاتورية ولن تقبل بان يتحول العالم كله الى عالم ديمقراطي! ان تحول العالم كله لواحة ديمقراطية حسب الفانتازيا التي يظنها بعض الليبراليون بغض النظر عن إيجابيات او سلبيات هذا الحلم فان هذا بالتأكيد سيكون ضربة كبيرة للنظام الرأسمالي العالمي. لذلك فان هنري كاسنجر وغيره لطالما عملوا على ترسيخ قواعد الدكتاتورية ودعم الانقلابات, هو امر امتد لنراه من سياسة الدول الغربية مع الربيع العربي ودعمها للأنظمة الدكتاتورية والانقلابات.
اذا المشكلة في قادة العالم ليست خلاف ايديلوجي او ثقافي او فكري, اغلب من يحكم العالم اليوم من مدرسة اقتصادية واحدة وفكر واحد ومحمي بمنظومة عالمية واحدة! المشكلة بالمنظومة نفسها! المشكلة انه وان كانت فكرة الرأسمالية فكرة مهمة لان انعدام المنافسة مؤذي بالضرورة للجودة لكن المنافسة يجب ان تكون مقيدة بقواعد تراقب وتضمن ان تكون المنافسة شريفة والا فان توحش الرأسمالية هو بالضبط ما يخلق أنظمة مثل نظام بوتن والنظام الصيني! هذه الأنظمة هي نتاج مباشر لعالم ما بعد الحرب الباردة وليس "نتيجة لفشله"

المحصلة
كثيرون ما يزالون يناقشون ان مشاكل النموذج ما بعد الحرب الباردة هو في عدم مناسبة الديمقراطية لمجتمعات معينة! الحقيقة ليس الهدف من هذا المقال مناقشة ان كانت الديمقراطية هي النظام الأمثل او لا, بالتأكيد للنظام الديمقراطي إيجابيات لا يمكن انكارها وعيوب يجب العمل عليها لكن المشكلة الحقيقية هي ان الديمقراطية لم تكن أصلا مطروحة على الطاولة كخيار لكثير من الشعوب خاصة تلك التي كان مصيرها ان تكون ارضاً للثروات الباطنية, كثيراً من هذه الدول يفضل النظام العالمي الغربي الرأسمالي ان يتعامل فيها مع أنظمة دكتاتورية, وعندما أقول "يفضل" اعني ان هذا النظام الغربي وضع أحيانا كل قوته لإجهاض المشاريع الديمقراطية والمحافظة على الأنظمة الدكتاتورية, والفائدة الثانية هي ان تصوير ما يحصل اليوم من نزاع بين روسيا والصين من جهة والغرب من جهة هو صراع حضاري هو توصيف خاطئ! ما يحصل هو صدام بين أنظمة كلها نتائج مباشرة للسطوة الغربية في العالم والتي مهما ادعت دعمها للديمقراطية في تلك الدول لطالما استثمرت مباشرة في صعود وتمكين الأنظمة الدكتاتورية الحالية لمصالح اقتصادية.
النظام العالمي الغربي رأسمالي بامتياز ديمقراطي عندما لا تتعارض الديمقراطية مع الرأسمالية.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022